فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال الفراء أصل الويل وي، وهو الخزي، ويقال: وي لفلان أي خزي له فقوله ويلك أي خزي لك، وقال سيبويه: ويح زجر لمن أشرف على الهلاك، وويل لمن وقع فيه.
قال الخليل: ولم أسمع على بنائه إلا ويح، وويس، وويك، وويه، وهذه الكلمات متقاربة في المعنى وأما قوله: {يا ويلتا} فمنهم من قال هذه الألف ألف الندبة وقال صاحب الكشاف: الألف في ويلتا مبدلة من ياء الإضافة في: {يا ويلتي} وكذلك في يا لهفا ويا عجبا ثم أبدل من الياء والكسرة الألف والفتحة، لأن الفتح والألف أخف من الياء والكسرة.
أما قوله: {ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِى شَيْخًا}
ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو آلد بهمزة ومدة، والباقون بهمزتين بلا مد.
المسألة الثانية:
لقائل أن يقول إنها تعجبت من قدرة الله تعالى والتعجب من قدرة الله تعالى يوجب الكفر، بيان المقدمة الأولى من ثلاثة أوجه: أولها: قوله تعالى حكاية عنها في معرض التعجب: {ءألد وَأَنَاْ عَجُوزٌ} وثانيها: قوله: {إِنَّ هذا لَشَئ عَجِيبٌ} وثالثها: قول الملائكة لها: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} وأما بيان أن التعجب من قدرة الله تعالى يوجب الكفر، فلأن هذا التعجب يدل على جهلها بقدرة الله تعالى، وذلك يوجب الكفر.
والجواب: أنها إنما تعجبت بحسب العرف والعادة لا بحسب القدرة فإن الرجل المسلم لو أخبره مخبر صادق بأن الله تعالى يقلب هذا الجبل ذهبًا إبريزًا فلا شك أنه يتعجب نظرًا إلى أحوال العادة لا لأجل أنه استنكر قدرة الله تعالى على ذلك.
المسألة الثالثة:
قوله: {وهذا بَعْلِى شَيْخًا} فاعلم أن شيخًا منصوب على الحال، قال الواحدي رحمه الله: وهذا من لطائف النحو وغامضه فإن كلمة هذا للإشارة، فكان قوله: {وهذا بَعْلِى شَيْخًا} قائم مقام أن يقال أشير إلى بعلي حال كونه شيخًا، والمقصود تعريف هذه الحالة المخصوصة وهي الشيخوخة.
المسألة الرابعة:
قرأ بعضهم: {وهذا بَعْلِى شَيْخًا} على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا بعلي وهو شيخ، أو بعلي بدل من المبتدأ وشيخ خبر أو يكونان معًا خبرين، ثم حكى تعالى أن الملائكة قالوا: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} والمعنى: أنهم تعجبوا من تعجبها، ثم قالوا: {قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَتُ} والمقصود من هذا الكلام ذكر ما يزيل ذلك التعجب وتقديره: إن رحمة الله عليكم متكاثرة وبركاته لديكم متوالية متعاقبة، وهي النبوة والمعجزات القاهرة والتوفيق للخيرات العظيمة فإذا رأيت أن الله خرق العادات في تخصيصكم بهذه الكرامات العالية الرفيعة وفي إظهار خوارق العادات وإحداث البينات والمعجزات، فكيف يليق به التعجب.
وأما قوله: {أَهْلَ البيت} فإنه مدح لهم فهو نصب على النداء أو على الاختصاص، ثم أكدوا ذلك بقولهم: {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} والحميد هو المحمود وهو الذي تحمد أفعاله، والمجيد الماجد، وهو ذو الشرف والكرم، ومن محامد الأفعال إيصال العبد المطيع إلى مراده ومطلوبه، ومن أنواع الفضل والكرم أن لا يمنع الطالب عن مطلوبه، فإذا كان من المعلوم أنه تعالى قادر على الكل وأنه حميد مجيد، فكيف يبقى هذا التعجب في نفس الأمر فثبت أن المقصود من ذكر هذه الكلمات إزالة التعجب. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ}
مَعْنَى الْأَوَّلِ: سَلَّمْت سَلَامًا وَلِذَلِكَ نَصَبَهُ، وَالثَّانِي جَوَابُهُ: عَلَيْكُمْ سَلَامٌ، وَلِذَلِكَ رَفَعَهُ.
وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، إلَّا أَنَّهُ خُولِفَ بَيْنَهُمَا لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ الْحِكَايَةَ.
وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ السَّلَامَ قَدْ كَانَ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ تَحِيَّةُ الْمَلَائِكَةِ.
وقَوْله تَعَالَى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}، فَإِنَّهَا مَعَ عِلْمِهَا بِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَقْدُورِ اللَّهِ تَعْجَبُ بِطَبْعِ الْبَشَرِيَّةِ قَبْلَ الْفِكْرِ وَالرَّوِيَّةِ، كَمَا وَلَّى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُدْبِرًا حِينَ صَارَتْ عَصَاهُ حَيَّةً حَتَّى قِيلَ لَهُ: {أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إنَّك مِنْ الْآمِنِينَ}، وَإِنَّمَا تَعَجَّبَتْ؛ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُقَالُ: إنَّهُ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَلِسَارَةَ تِسْعُونَ سَنَةً.
قَوْله تَعَالَى: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ سَمَّتْ امْرَأَةَ إبْرَاهِيمَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُخَاطَبَةِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا} إلَى قَوْلِهِ: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} قَدْ دَخَلَ فِيهِ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْخِطَابِ لَهُنَّ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}.
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
قَدْ بَيَّنَّا فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ إعْرَابَ الْآيَةِ، وَقَدْ قَالَ الطَّبَرِيُّ: إنَّهُ عَمِلَ فِي سَلَامٍ الْأَوَّلِ الْقَوْلُ، كَأَنَّهُ قَالَ: قَالُوا قَوْلًا وَسَلَّمُوا سَلَامًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ سَلَامًا. قَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيُّ: إنَّ نَصْبَهُ عَلَى الْمَصْدَرِ أَظْهَرُ وُجُوهِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَمِلَ فِيهِ الْقَوْلُ كَانَ عَلَى مَعْنَى السَّلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ عَمَلُ لَفْظِهِ، كَأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَلَى الْمَعْنَى، كَمَا تَقُولُ: قُلْت حَقًّا، وَلَمْ يَنْطِقْ بِالْحَاءِ وَالْقَافِ، وَإِنَّمَا قُلْت قَوْلًا مَعْنَاهُ حَقٌّ، وَهُمْ إنَّمَا تَكَلَّمُوا بِسَلَامٍ، وَلِذَا أَجَابَهُمْ بِالسَّلَامِ، وَعَلَى هَذَا جَرَى قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ. قَالَ: فَإِنَّهُ يَقُولُ أَمْرِي سَلَامٌ، أَجَابَهُمْ عَلَى الْمَعْنَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
قَالَ عُلَمَاؤُنَا قَوْلُهُ: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ}.
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَلَائِكَةِ هِيَ تَحِيَّةُ بَنِي آدَمَ.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: الصَّحِيحُ أَنَّ {سَلَامًا} هَاهُنَا مَعْنَى كَلَامِهِمْ لَا لَفْظُهُ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}، وَلَوْ كَانَ لَفْظُ كَلَامِهِمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ ذِكْرَ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ ذِكْرَ الْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ سَلَامٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَرَادَ ذِكْرَ اللَّفْظِ قَالَ بِعَيْنِهِ، فَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ الْمَلَائِكَةِ: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ}.
{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}، وَأَبْدَعُ مِنْهُ فِي الدَّلَالَةِ أَنَّهُ قَالَ: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ}.
وَقَالَ أَيْضًا: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إلْ يَاسِينَ}.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: قَوْلُهُ: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّلَامَ يُرَدُّ بِمِثْلِهِ، كَمَا رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِي قَالَ: كُنْت مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَيُسَلَّمُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَيُرَدُّ كَمَا يُقَالُ.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: هَذَا عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ هَاهُنَا سَلَامٌ بِلَفْظِهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
قَوْله تَعَالَى: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}.
قَدَّمَهُ إلَيْهِمْ نُزُلًا وَضِيَافَةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ ضَيَّفَ الضَّيْفَ حَسْبَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.
وَفِي الإسرائليات أَنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ وَحْدَهُ، فَإِذَا حَضَرَ طَعَامُهُ أَرْسَلَ يَطْلُبُ مَنْ يَأْكُلُ مَعَهُ؛ فَلَقِيَ يَوْمًا رَجُلًا فَلَمَّا جَلَسَ مَعَهُ عَلَى الطَّعَامِ قَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ: سَمِّ اللَّهَ.
قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: لَا أَدْرِي مَا اللَّهُ؛ قَالَ لَهُ: فَاخْرُجْ عَنْ طَعَامِي.
فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلُ نَزَلَ إلَيْهِ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ: يَقُولُ [اللَّهُ]: إنَّهُ يَرْزُقُهُ عَلَى كُفْرِهِ مَدَى عُمُرِهِ، وَأَنْتَ بَخِلْت عَلَيْهِ بِلُقْمَةٍ، فَخَرَجَ إبْرَاهِيمُ مُسْرِعًا فَرَدَّهُ، فَقَالَ: [ارْجِعْ قَالَ]: لَا أَرْجِعُ؛ تُخْرِجُنِي ثُمَّ تَرُدُّنِي لِغَيْرِ مَعْنًى، فَأَخْبَرَهُ بِالْأَمْرِ، فَقَالَ: هَذَا رَبٌّ كَرِيمٌ. آمَنْت. وَدَخَلَ وَسَمَّى اللَّهَ، وَأَكَلَ مُؤْمِنًا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:
ذَهَبَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ الضِّيَافَةَ وَاجِبَةٌ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ صَدَقَةٌ».
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ».
وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ وَلَفْظُهُ لِلتِّرْمِذِيِّ.
وَذَهَبَ عُلَمَاءُ الْفِقْهِ إلَى أَنَّ الضِّيَافَةَ لَا تَجِبُ؛ إنَّمَا هِيَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَتَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: «فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ»؛ وَالْكَرَامَةُ مِنْ خَصَائِصِ النَّدْبِ دُونَ الْوُجُوبِ.
وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إنَّ هَذَا كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَثْبُتْ وَالنَّاسِخَ لَمْ يَرِدْ.
أَمَّا إنَّهُ قَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «نَزَلْنَا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَفْنَاهُمْ، فَأَبَوْا، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَمْ يَنْفَعْهُ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ؛ إنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَقَدْ سَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَمْ يَنْفَعْهُ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ شَيْءٌ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنِّي وَاَللَّهِ أَرْقِي، وَلَكِنْ وَاَللَّهِ لَقَدْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعَلًا.
فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفُلُ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَكَأَنَّمَا أُنْشِطُ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ.
قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمْ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا، وَقَالَ الَّذِي رَقَى: لَا تَفْعَلُوا، حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ، فَنَنْظُرَ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ.
فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيك أَنَّهَا رُقْيَةٌ ثُمَّ قَالَ: اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا.
فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
.
فَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَاسْتَضَفْنَاهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُونَا، ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الضِّيَافَةَ لَوْ كَانَتْ حَقًّا لَلَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَوْمَ الَّذِينَ أَبَوْا وَبَيَّنَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَلَكِنَّ الضِّيَافَةَ حَقِيقَةً فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الْقُرَى حَيْثُ لَا طَعَامَ وَلَا مَأْوَى، بِخِلَافِ الْحَوَاضِرِ، فَإِنَّهَا مَشْحُونَةٌ بِالْمَأْوِيَّاتِ وَالْأَقْوَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّيْفَ كَرِيمٌ، وَالضِّيَافَةَ كَرَامَةٌ، فَإِنْ كَانَ عَدِيمًا فَهِيَ فَرِيضَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:
قَوْله تَعَالَى: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} قَالَ كُبَرَاءُ النَّحْوِيِّينَ: فَمَا لَبِثَ حَتَّى جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، وَأَعْجَبُ لَهُمْ كَيْفَ اسْتَجَازُوا ذَلِكَ مَعَ سِعَةِ مَعْرِفَتِهِمْ.
وَقَالَ غَيْرُهُمْ مَا قَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذِكْرَهُ فِي الْمُلْجِئَةِ، وَحَقَّقْنَا [أَنَّ مَوْضِعَ] {أَنْ جَاءَ} مَنْصُوبٌ عَلَى حُكْمِ الْمَفْعُولِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ:
مُبَادَرَةُ إبْرَاهِيمَ بِالنُّزُولِ حِينَ ظَنَّ أَنَّهُمْ أَضْيَافٌ مَشْكُورَةٌ مِنْ اللَّهِ مَتْلُوَّةٌ مِنْ كَلَامِهِ فِي الثَّنَاءِ بِهَا عَلَيْهِ، تَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي إنْزَالِهِ فِيهِ حِينَ قَالَ فِي مَوْضِعِ: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ.
وَفِي آخَرَ: فَجَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ أَيْ مَشْوِيٍّ، وَوَصَفَهُ بِالطِّيبَيْنِ: طِيبِ السِّمَنِ، وَطِيبِ الْعَمَلِ بِالْإِشْوَاءِ، وَهُوَ أَطْيَبُ لِلْمُحَاوَلَةِ فِي تَنَاوُلِهِ؛ فَكَانَ لِإِبْرَاهِيمَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: الضِّيَافَةُ، وَالْمُبَادَرَةُ بِهَا جَيِّدًا لِسِمَنٍ فِيهَا وَصْفًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ:
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: كَانَتْ ضِيَافَةٌ قَلِيلَةٌ فَشَكَرَهَا الْحَبِيبُ مِنْ الْحَبِيبِ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ بِالظَّنِّ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ وَبِالْقِيَاسِ فِي مَوْضِعِ النَّقْلِ، مِنْ أَيْنَ عُلِمَ أَنَّهُ قَلِيلٌ؟ بَلْ قَدْ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا ثَلَاثَةً: جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ، وَعِجْلٌ لِثَلَاثَةٍ عَظِيمٌ، فَمَا هَذَا التَّفْسِيرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ؟ هَذَا بِأَمَانَةِ اللَّهِ هُوَ التَّفْسِيرُ الْمَذْمُومُ، فَاجْتَنِبُوهُ فَقَدْ عَلِمْتُمُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ:
السُّنَّةُ إذَا قُدِّمَ لِلضَّيْفِ الطَّعَامُ أَنْ يُبَادِرَ الْمُقَدَّمُ إلَيْهِ بِالْأَكْلِ مِنْهُ، فَإِنَّ كَرَامَةَ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ الْمُبَادَرَةُ بِالْقَبُولِ، فَلَمَّا قَبَضَ الْمَلَائِكَةُ أَيْدِيَهُمْ نَكِرَهُمْ إبْرَاهِيمُ؛؛ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ الْعَادَةِ، وَخَالَفُوا السُّنَّةَ، وَخَافَ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهُمْ مَكْرُوهٌ يَقْصِدُونَهُ.
وَقَدْ كَانَ مِنْ الْجَائِزِ كَمَا يَسَّرَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ أَنْ يَتَشَكَّلُوا فِي صِفَةِ الْآدَمِيِّ جَسَدًا وَهَيْئَةً أَنْ يُيَسِّرَ لَهُمْ أَكْلَ الطَّعَامِ، إلَّا أَنَّهُ فِي قَوْلِ الْعُلَمَاءِ، أَرْسَلَهُمْ فِي صِفَةِ الْآدَمِيِّينَ، وَتَكَلَّفَ إبْرَاهِيمُ الضِّيَافَةَ حَتَّى إذَا رَأَى التَّوَقُّفَ، وَخَافَ جَاءَتْهُ الْبُشْرَى فَجْأَةً، وَأَكْمَلُ الْمُبَشِّرَاتِ مَا جَاءَ فَجْأَةً وَلَمْ يَظُنَّهُ الْمَسْرُورُ حِسَابًا. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إبراهيم بالبشرى} يعني: ببشارة الولد.
وذلك أن مدينة يقال لها: سدوما.
ويقال: سدوم، وكانت بلدة فيها من السعة والخير، ما لم يكن في سائر البلدان وكان الغرباء يحضرون من سائر البلدان، في أيام الصيف، ويجمعون من فضل ثمارهم، مما كان خارجًا من الكروم، والحدائق.
فجاء إبليس لعنه الله، فشبه نفسه بغلام أمرد، وجعل يدخل كرومهم، وحدائقهم، ويراودهم إلى نفسه، حتى أظهر فيهم الفاحشة.
وجاء إلى نسائهم، وقال: إن الرجال قد استغنوا عنكن، فعلَّمَهُنَّ أن يستغنين عن الرجال، حتى استغنى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء.
فأوحى الله تعالى إلى لوط، ليدعوهم إلى الإيمان، ويمتنعوا عن الفواحش، فلم يمتنعوا.
فبعث الله جبريل، ومعه أحد عشر من الملائكة بإهلاكهم، فجاؤوا إلى إبراهيم كهيئة الغلمان، فدخلوا على إبراهيم، فنظر فرأى اثني عشر غلامًا أمرد، ويقال: كانوا ثلاثة جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ويقال: كانو أربعة، فسلموا عليه: {قَالُواْ سلاما قَالَ سلام} يعني: ردّ عليهم السلام.